كبرنا ونحن نردد أشعارا عن الوطن، نتغنى بهذا الوطن، نتغزل به ونكتب في حبه القصائد والنصوص. كبرنا وكبر الوطن فينا، لكن أوجاعه وجروحه صارت أكبر يوما بعد يوم. صار مخيفا بعد أن كان يحمل في جيوبه رنين أجراس الصباح ورائحة خبز منتصف النهار لدرجة جعلته يحكم علينا إمّا بالبقاء فيه مسلوبي الرأي والحرية وإمّا بتركه للبقاء على قيد الحياة. حدث هذا مع الكثيرين منّا في السنوات الأخيرة ونسينا في فترات وجيزة كأننا لم نكن. حدث هذا أيضا مع فنانين ومشاهير فيهم من اختار الوقوف حذو السلطة بينما ركض آخرون كالفنان القدير جهاد عبدو في الاتجاه المعاكس لها.
ليس مُعيبا على الرجال البكاء ولكن..
تبع تيار هجرة كبيرة ثورات الربيع العربي، كما أسميه رغم الخريف والشتاء القاسيين اللذين حلاّ بعده، وشمل هذا القارب العديد من الفنانين المعارضين للسلطة، التي أفشلت في العديد من البلدان معركة افتكاك الشعب لمشعل الحرية. كانت حينئذ حيواتهم وعائلاتهم وكرامتهم مهددة، وكان طوق النجاة الوحيد هو تذكرة الطائرة نحو الشمال لمن استطاع إليها سبيلا. جهاد عبدو واحد من بين هؤلاء. عرفنا جهاد عبدو، هذا السوري المبدع، في محطات عديدة.
أحببناه كما أحببنا فيه قدرته الخارقة على تقمص مختلف الأدوار، فكان برهوم عطا في مسلسل نهاية رجل شجاع (سنة 1993) المقتبس من رواية تحمل نفس العنوان لحنّا مينة، ثم رأيناه سنة 1997 في مسلسل أيام الغضب جنبا إلى جنب مع الكبير أيمن زيدان، ولعلنا لم ننسى إلى اليوم حين قال له هذا الأخير في مشهد مؤثر جدا: ” مو عيب الرجال تبكي، العيب إنو دموعهم تروح هدر” وفي مسلسل الطير الذي قدّم لنا فيه التلفزيون السوري سنة 1998 “كاريس بشار” في دور بطولة.
في محطات زمنية قريبة من اليوم، كان جهاد عبدو حاضرا في المسلسل الذي حمل العالم العربي برمّته إلى البيوت الدمشقية، وهو مسلسل باب الحارة، فوجدناه في الجزء الثالث والرابع سنتي 2008 و2009، ثم في “الولادة من الخاصرة” سنة 2011، الذي اعتبره العديد من المشاهدين العرب أحد أجمل الأعمال التلفزية.
جهاد عبدو عاش بـ3 دولارات في اليوم
لم تقتصر اجتهادات جهاد على شاشات التلفزيون بل كانت له بصمة واضحة في مجالي المسرح والسينما. كل هذه الانتصارات على الحياة لم تشفع لممثل وإنسان مثل جهاد عند السلطة التي كان مرغما أن يستحيل بوقا لها؛ كما قال في إحدى حواراته المصورة، أو أن ينفذ بجلده، وقد مال للخيار الثاني بعد أن وصلته تهديدات بالقتل، عندما نشر له حوار جريء أقامه في بيروت مع صحفية Los Angeles Times.
حمل جهاد نفسه في أكتوبر وسافر إلى القاهرة ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت زوجته وحبيبته فادية العفاش تكمل دراستها الجامعية، بعدما لم يعد لها مكان في وزارة الثقافة السورية. في هذه المرحلة الحياتية الجديدة، ظل إسم “جهاد” يخيف المواطن الأمريكي ويجلب سوء الحظ لصاحبه سواء في التشغيل أو في العلاقات، فحتى أمريكا مازالت بعيدة عن احترام الاختلافات والحريات.
من هنا، لاح في الأفق اسم “جاي”، لا نفيا للهوية بل تفاديا للمشاكل والمصاعب. بدأ هذا الثنائي حياة صعبة وقاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ قال الممثل إنهما كانا يعيشان بـ 3 دولارات يوميا في فترات ما، وإنه ظل عاما كاملا يبحث عن عمل إلى أن وجد فرصة شغل عند بائع ورود، ثم عند خدمة توصيل بيتزا ليصل دخله إلى 300 دولار في الأسبوع.
لكن الحياة لم تشأ أن تنهكه أكثر فأهدته دورا مع المخرج الألماني Werner Herzog الذي عرض عليه أول دور له في السينما الهوليودية من خلال فيلم The Queen of The Desert، جنبا إلى جنب مع الجميلة نيكول كيدمان. قال عنه هذا المخرج في جريدة Wall Street، إنه في حلقات التصوير في مراكش تأكد من عظمة جهاد، ومن حب الناس له حيث كان الجميع هناك يطلبون صورة معه. لكننا اليوم لن نتحدث عن هذا العمل وإنما سنعيش معاناة اللاجئين في فيلم قصير بعنوان قِبلة أو Facing Mecca.
“Facing Mecca”.. قصة إنسانية تتجاوز حدود الأوطان
نزّل المخرج Jan-Eric Mack وجهاد عبدو في 9 ديسمبر\ كانون الأول 2021 تدوينة على صفحتهما الشخصية بفيسبوك، أعلنا فيها أن فيلمهما القصير قِبلة أصبح متاحا على منصة نتفليكس.
يروي الفيلم في 27 دقيقة قصة إنسانية تتجاوز حدود الأوطان والأديان والخلفيات الاجتماعية ليتحدث عن فريد اللاجئ المسلم الذي يعيش في سويسرا مع طفلتيه. كانت الفكرة الرئيسية لهذا العمل محاولة دفن زوجة فريد حسب التعاليم الإسلامية لكن هذا الأمر كان صعبا وغير ممكن جرّاء المسائل الإدارية في ذلك البلد حتى مجيء رولي، العجوز المتقاعد السويسري وتقديم يد العون. لعب Peter Freiburghaus دور رولي وأدت Ruth Schwegler دور دوريس زوجته.
نال هذا الفيلم القصير الذي رأى النور في يونيو 2017 إعجاب المشاهدين الذين قيموه بعدد يقارب 7.6 من أصل 10 علي منصة IMDb، لعلّهم بذلك يرسلون رسالة يقولون فيها أن صوت الإنسانية أقوى من أي صوت، وأننا بانتصارنا لقيم دفنت فينا وكبرنا بها ننتصر لهذا الإنسان، الذي صار لاجئا في سويسرا وسجينا ومحاربا وقتيلا في بلدان أخرى.
في هذه الرحلة التي قد تُبكي كل من يختار أن يمضي فيها، وقد تنهك كل من عاشها، يعود جاي إلى كل أولئك الذين رفضوا الظلم والاستبداد فوجدوا أنفسهم خارج تراب الوطن، وإلى كل أولئك الذين ظلوا مغتربين، لا مكان لهم هناك ولا وطن لهم هنا. يكتب بالدم قصص الآلاف من اللاجئين ويحكي حكايات كنا نظنها في الماضي القريب محض خيال ثم يقدمها بمرّها ووجعها للعالم من شرقه إلى غربه، لعلّه يوقظ فيه إنسانيته.